كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{واتل} أي: يا محمد {عليهم} أي: اليهود {نبأ} أي: خبر {الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} أي: خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين سئل أن يدعو على موسى، وأهدي إليه شيء، فدعا فانقلبت عليه، واندلع لسانه على صدره {فاتبعه الشيطان} أي: لحقه وأدركه وصيره لنفسه تابعًا في معصية الله تعالى، فخالف أمر ربه وأطاع الشيطان وهواه {فكان من الغاوين} أي: من الضالين الهالكين.
وقصته على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنّ موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إنّ موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله تعالى أن يردّهم عنا، فقال: ويلكم نبيّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما لا تعلمون؟ وأني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي، فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أوامر ربي، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له في المنام: لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد وامرت ربي، وإني نهيت أن أدعو عليهم، فأهدوا إليه هدية، فقبلها وراجعوه فقال: حتى أوامر ربي، فوامر فلم يؤمر بشيء، فقال: قد وامرت ربي فلم يأمرني بشيء، فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى، فلم يزالوا يتضرّعون إليه حتى فتنوه، فافتتن، فركب أتانًا له متوجهًا إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له: حسبان، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت، فنزل عنها وضربها فقامت، فركبها فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت، فضربها فأذن الله تعالى لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي؟ ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم؟ فلم ينزجر فخلى الله تعالى سبيل الأتان، فانطلقت به حتى أشرف على جبل حسبان، فجعل يدعو عليهم فلا يدعو بشر إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، فقال: هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهب الآن مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، احملوا النساء وزينوهنّ وأعطوهنّ السلع، ثم أرسلوهنّ إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه، ومروهنّ أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنه إن زنا رجل بواحدة كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حتى أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال: إني لأظنك أن تقول هذه حرام عليك، قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فو الله لا نطيعك، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في الوقت فهلك منهم سبعون ألفًا في ساعة من النهار وقيل: الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت كان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولًا في ذلك الزمان ورجا أن يكون هو فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به.
وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وقيل: إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطى ثلاث دعوات مستجابات وكان له امرأة وكان له منها أولاد فقالت له: اجعل لي منها دعوة فقال لها: لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فصارت أجمل النساء في بني إسرائيل فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عنه فغضب ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة وقد عيرنا الناس ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله تعالى فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات كلها وقيل غير ذلك، ويدل للقول الأوّل قوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه} أي: منازل الأبرار {بها} أي: بسبب تلك الآيات {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي: مال إلى الدنيا، قال البيضاوي: أو السفالة، قال الجوهري: السفالة بالضم نقيض العلو، وبالفتح النذالة {واتبع هواه} أي: في آثار الدنيا، واسترضى قومه، وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى، ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيهًا على أنّ المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه، وأنّ عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأنّ السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من هذه الأسباب وسايط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك.
وكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه مبالغة وتنبيهًا على ما حمله عليه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وهذه الآية من أشدّ الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنه بعد أن خص هذا الرجل بآياته، وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين، فصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله تعالى في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم، وإليه الإشارة بقوله: «من ازداد علمًا ولم يزدد هدى فلم يزدد من الله إلا بعدًا» {فمثله} أي: فصفته التي هي مثل في الخسة {كمثل الكلب} أي: كمثله في أخس أوصافه وهو {إن تحمل عليه} أي: بالطرد والزجر {يلهث} أي: يدلع لسانه {أو} إن {تتركه يلهث} فهو يلهث دائمًا سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك، وليس غيره من الحيوان كذلك، قيل: كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال والراحة؛ لأنّ اللهث طبيعة أصلية فيه، فكذلك حال من كذب بآيات الله إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، وكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه، وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضًا؛ لأنّ الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه»، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلًا دائم الذلة لاهثًا في الحالتين.
وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب {ذلك} أي: المثل {مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} فعم بهذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها، ووجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا بل هم في ضلال على كل حال {فاقصص القصص} أي: فأخبر يا محمد قومك بهذه الأخبار التي سبقت بها مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبسًا على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم {لعلهم يتفكرون} أي: يتدبرون فيها فيؤمنون.
{ساء} أي: بئس {مثلًا القوم} أي: مثل القوم {الذين كذبوا بآياتنا} أي: بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها {وأنفسهم كانوا يظلمون} أي: كان ذلك في طبعهم جبلة لهم لا يقدر غير الله تعالى على تغييره، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّاها إلى غيرها. وقوله تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى، وأنّ هداية الله تعالى تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء، والإفراد في الأوّل والجمع في الثاني باعتبار اللفظ والمعنى، تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقتهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإخبار عمن هدى الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للقول بالنعم الآجلة والعنوان له.
أي: خلقنا {لجهنم كثيرًا من الجنّ والإنس} أخبر الله تعالى أنه خلق كثيرًا من الجنّ والإنس للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، ومن خلقه الله تعالى للنار فلا حيلة له في الخلاص منها.
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبيّ من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء، ولم يدركه، فقال: أو غير ذلك يا عائشة إنّ الله خلق الجنة، وخلق لها أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم». أخرجه مسلم.
قال النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أنّ من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة؛ لأنه ليس مكلفًا، وتوقف فيه من لا يعتد به لهذا الحديث، وأجاب العلماء عنه بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله نهانا عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عنها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص قوله: أعطه فإني لأراه مؤمنًا، فقال: أو مسلمًا، قال بعضهم: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنّ أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم ذلك أخبر به، قال: وأما أطفال المشركين، ففيهم ثلاثة مذاهب، قال الأكثرون: هم في النار تبعًا لآبائهم، وتوقف طائفة منهم، والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون: أنهم من أهل الجنة، واستدلوا بأشياء منها حديث: «إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة، وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين، قال: وأولاد المشركين». رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} (الإسراء،).
ولا يتوجه على المولود التكليف، ولا يلزمه قبول قول المرسل حتى يبلغ، وهذا متفق عليه.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها؛ لأنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيرًا من الجنّ والإنس للنار، ولا مزيد على بيان الله تعالى؛ ولأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار، فلما عمل بما يوجب عليه دخول النار به علم أنّ له من يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى.
وقالت المعتزلة: إن اللام في قوله: {لجهنم}، لام العاقبة، واستدلوا لذلك بآيات وأشعار، فمن الآيات قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنًا} (القصص،).
وهم ما التقطوه لهذا الغرض، ومنها قول موسى: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالًا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك} (يونس،).
ومن الأشعار قول بعضهم:
وللموت تغذ والوالدات سخالها ** كما لخراب الدهر تبنى المساكن

وقال آخر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ** ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وقال آخر:
له ملك ينادي كل يوم ** لدوا للموت وابنوا للخراب

وقال آخر:
وأمّ شمال فلا تجزعي ** فللموت ما تلد الوالدات

وهذا مردود؛ لأنّ المصير إلى التأويل إنما يحسن إذا ثبت الدليل العقلي على امتناع حمل اللفظ على ظاهره، فإذا لم يثبت كان المصير إلى التأويل في هذا المقام عبثًا، فالحق مذهب أهل الحق جعلنا الله تعالى وأهل مودّتنا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله، ثم وصف الله تعالى هؤلاء الذين أضلهم بقوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها} أي: لا يبصرون بها طريق الحق والهدى {ولهم آذان لا يسمعون بها} أي: الآيات والمواعظ سماع تأمّل وتذكر، وقال أهل المعاني: إنّ الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا، ولهم أعين يبصرون بها المرئيات، وآذان يسمعون بها الكلمات، وهذا لا شك فيه، ولما وصفهم الله تعالى بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدرّاكة علم أنّ المراد من ذلك يرجع إلى مصالح الدين، وما فيه نفعهم في الآخرة، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له، ومنه قوله الشاعر:
وعوراء الكلام صممت عنها ** وإني إن أشاء بها سميع

فإنه أثبت له صممًا مع وجود السمع ولما سلب عنهم هذه المعاني كانت النتيجة {أولئك} أي: البعداء من المعاني الإنسانية {كالأنعام} في أنها لا تفهم ولا تعقل ذلك؛ لأنّ الإنسان وسائر الحيوانات مشتركة في هذه الحواس الثلاث التي هي القلب والبصر والسمع، وإنما فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدّي إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشرّ، فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه كان لا فرق بينه وبين البهائم التي لا تدرك شيئًا، ولما كانوا قد زادوا على ذلك بفقد نفع هذه الحواس قال تعالى: {بل هم أضلّ} سبيلًا من الأنعام؛ لأنّ الأنعام تعرف ما يضرّها وما ينفعها، فإذا رأت نارًا مثلًا لا تقع فيها، وإذا رأت كلأ مثلًا دخلت فيه، والكافر لا يعرف ذلك؛ ولأنّ الحيوان لا قدرة له على تحصيل هذه الفضائل؛ والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخس حالًا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها؛ ولأنّ الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع، ولأنّ الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه؛ ولأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد، فأما إذا كان معها مرشد فقل أن تضل، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب، وهم يزدادون في الضلالة.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {أولئك هم الغافلون} قال عطاء: عما أعدّ الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.